الاثنين، 25 فبراير 2008

ثــأر الـشـرفــاء

دقت الساعه الواحدة من صباح يوم الأثنين من شهر يناير؛ نهض عن فراشه ببطء شديد واتجه نحو المرآه ؛ نظر لنفسه مليا ليجد نفسه شابا تخطى الثامنة والعشرين ببضعة أسابيع ؛ واسع العينين ؛ لم يظهر من شعره سوى بضعة خصلات تدنو على جبهته أما الباقى فاختفى تحت قبعة الرأس التى كان يرتديها ؛ لديه شاربا ولحيه يكسوا على معظم ملامح وجه ؛ نظر إلى نفسه مليا وأخذ يقترب أكثر فأكثر ؛ وكأنه يود أن يشرح للمرآة موقفه بعدما أحس إنها تهمس فى أذنيه لتقول له ( هل هانت عليك نفسك لهذة الدرجه ؟) أقترب منها أكثر ليجيبها ولكنه لبرهة أحس بالعجز عن الأجابه ؛ فابتعد سريعا عن المرآه وكأنه خاف من ضعفه وكسر عزيمته ؛ وقف قليلا وسط غرفته كأنه يبحث عن شئ يستمد منه قوته ثانية ؛ نظر الى كل قطعة فى غرفته مليا ؛ لم يكن بها سوى سرير صغير من طراز قديم ؛ ودولاب يحوى ملابسه وأغراضه ؛ ومنضدة صغيرة لا يوجد عليها شئ سوى المصحف الشريف؛ وسجادة الصلاة ؛ ومرآه ؛ وشرفة تطل على الشارع الرئيسى ؛ ( الشرفه ) قالها فى نفسه وهو يتجه إليها ببصره ؛ وكأنه وجد ما كان غائبا عنه ؛ أتجه إلى الشرفه وفتحها ولكن فجأته بضعة أعاصير قويه تضرب المدينة من كل صوب ؛ فهذا الشهر كثيرا ما يحدث هذا ؛ ولكنه لم ينتبه لها ( فما أحن الأعاصير على المساكن ) قالها وهو يبتسم إبتسامة ملؤها الحزن ؛ وتذكر الصواريخ وهى تنقذف على إحدى المساكن المجاورة لمسكنه ؛ كم تمنى يومها لو سمع صرخات ترتفع من هذه المساكن ولكن حلمه كان صعب التحقيق ؛ فالصواريخ أطاحت بأى حياة . ذرف دمعة ولكنها لم تخرج من عينيه بل ذرفت داخله لتطفأ أحاسيس الضعف التى تملكته ؛ أتجه ببصره وهو ما زال فى شرفته فوجد بعض المساكن ما زالت شامخة (ولكن إلى متى ؟) سأل فى نفسه ؛ ولم يعرف أيضا الاجابه .
أتجه ببصره يمينا أكثر فأكثر فرأى لوحة معدنيه كبيرة مهملة ملقاه على الارض كتب عليها ( مدرسه غزه الأعداديه للبنين ) .
نعم لوحة مهمله لأنه لم يعد وجود لمثل هذه المدرسه ؛ فلم يبق منها سوى حطام ؛ تذكرها جيدا وتذكر أيامه بها ؛ أصدقائه ولحظات المرح ؛ مدرس التربيه الفنيه عندما رتب مسابقه بين التلاميذ على أحلى لوحه فنيه تصف بلدهم فلسطين ؛ فرسم أروع لوحه وأخذ بها جائزة المسابقه التى لم تكن سوى علبة ألوان ؛ ولكن سعادته بها كانت لا توصف ؛ أبتسم أبتسامة عريضه وهو يتذكر ولكن سرعان ما توقف عنها عندما افاق على سؤالا جال بخاطره .( إذا حاولت رسم بلدى ثانية الآن فماذا أرسم ؟.) وأيضا لم يعرف الإجابة .
خرج من أفكاره سريعا بعد هذا السؤال و أتجه إلى باب الشرفه ليكون داخل غرفته ثانية؛ تابع خطواته بنشاط نحو سريره وأنحنى وأخرج من أسفله صندوق كبير مغطى ؛ فتحه وأطمئن على ما بداخله وأغلقه ثانية وتركه مكانه .
وقف وأتجه بخطواته خارج الغرفه للذهاب للتوضأ ؛ رجع غرفته ثانية بعدما توضأ ؛ ثم أرتدى ملابسه أستعدادا للخروج ؛ نظر فى ساعته فوجدها الثانية والربع صباحا ؛ فرش سجادته ليصلى ركعتين لله ؛ ختم صلاته ولكنه بكى . بكى من كل جوارحه ؛ فاليوم يوم موته ؛ بل لم يبق على موته سوى ساعتين ونصف ؛ فما الذى يفعله بهذا الوقت ؛ بعدما لم يبق فى حياته كلها سوى ساعتين ونصف فقط !.
تضاربت الأحاسيس داخله؛ فلا يعرف هل يفرح لأنه إن شاء الله سيبيد الأعداء حتى لو بروحه ؛ أم هل يحزن لفراق أهله وعشيرته ودنيته وحياته ؛ أم الخوف ليس الخوف من الموت فمن يخاف الموت لا يفكر بمثل هذا الأمرولكنه الخوف من فشل المهمه وضياع روحه هدر .
حاول إبعاد هذه الأفكار عنه قليلا ريثما يخرج من بيته ؛ دعا الله بالتوفيق وأختيار الخير له حيثما كان ؛ مسك المصحف الشريف وقرأ فيه قليلا حتى يهدئ روعه ؛ ثم قام عن سجادته وأثناها ووضعها مكانها ؛ خرج من غرفته متجها نحو غرفة أخوانه البنين الثلاثه ؛ فتح الباب بهدوء شديد حتى لا يوقظهم ؛ نظر إليهم مليا وهو يبكى بصمت حتى لا يشعروا به ؛ وقبل جبين كلا منهم وأتجه نحو باب الغرفه وهو لا يستطيع إبعاد نظره عنهم ؛ ثم أغلق الباب خلفه بنفس الهدوء الذى أعتاد عليه ؛ ثم أتجه نحو غرفة أمه فوجدها تغض فى نوم عميق ؛( وهى لا تعرف ماذا ينوى أبنها الأكبر فعله )؛ وجدها نائمة مثل الملائكه نظر على المنضدة المجاوره لها ؛ فوجد عليها زجاجة المنوم الخاص بها والذى أعتادت عليه بعدما بدأ النوم فى مجافتها يوما بعد يوم من خوفها على أبنائها ؛ جلس بجانبها وقتا قليلا بالنسبة له ؛ يتذكر حياتهما معا بكل شئ؛ بحلوها ومرها ؛ أيام الشدة وأيام الرخاء ؛ أيام البرد وأحتضانها لهم ؛ وأيام الحر وسهرهم سويا بالشرفه مع الضحك واللهو ؛ يتخيل ماذا سيحل بها بعد معرفتها خبر موته ؛ وهذه المرة يعرف الإجابه ولكنه يبعدها عن خاطره .
نظر فى ساعته فوجد أنه ظل قرب أمه ساعة كامله وكان فى إعتقاده أنه لم تمر سوى خمس دقائق ؛ ولكن الآن لم يبق على ميعاده سوى ساعة واحدة فقط ؛ فنحنى على أمه وقبل وجنتيها وجبينها ثم إنحنى وقبل يديها ؛ وأخذ يخرج من غرفتها ببطء شديد وهو ينظر إليها ويبكى بشدة .
أتجه إلى غرفته وأخذ نفسا عميقا ثم بدأ يهدئ من روحه قليلا قليلا ؛ ثم أتجه نحو الصندوق المغطى بجوار سريره ؛ فتحه وأخرج منه بعض المتفجرات ووضعها بداخل ملابسه قدر الإمكان حتى تزداد دائرة التفجير ؛ وأخذ جهاز التشغيل الخاص بها ووضعه فى جيبه مؤقتا .
أتجه نحو باب الشقه ؛ وفتح الباب بهدوء شديد ؛ نزل ومشى خطوات سريعة طويله ؛ فلم يعد هناك متسع من الوقت ؛ ذهب إلى معسكر الجنود الأعداء الذى يبعد عن مسكنه بحوالى 2 كيلو ؛ مشى سريعا أكثر فأكثر وهو يحاول أن يقوى نفسه بتذكره ما فعله الجنود الاعداء بشعبه من قتل وحرق وهدم وأعتقال وتعذيب وأغتصاب و..... و....... و........
( هاهو المكان ) قالها فى نفسه وهو يبعد عن المعسكر بحوالى مئة متر ؛ أخذ ينظر يمينا ويسارا على المكان الذى كان يخطط للدخول منه إلى المعسكر ليرى إن كانت عليه أحدى دوريات الحراسه أم لا ؛ ولكنه لم يجد أحدا واقفا عليه ؛ فدخل بمنتهى السرعة والحذروهو يخرج مشغل المتفجرات من جيبه حتى أصبحت المسافه بينه وبينهم بسيطة ؛ فوجد أمامه حوالى ثلاثين جندى (كانوا فى سهرة خاصه سويا يضحكون ويلهون ويحكون لبعضهم عن مغامراتهم مع أهل هذه البلدة) ؛ نظر إليهم مليا ؛ ثم أتجه نحوهم أكثر فأكثر بسرعه ومشغل المتفجرات فى يده حتى اصبح فى وسطهم تماما
ثم ....
ضغط على الزر .......
ودوى الانفجار ......

وتناثرت أشلائه فى كل اتجاه ؛ ولكن لم تكن أشلائه فقط مثل كل مرة يموت فيها أحدا من أبناء شعبه ؛ بل كان هناك ايضا أشلاء ثلاثين جندى من جنود الأعداء.
فياله من ثأرا رحيما لما يقترفه الاعداء بشعبنا.
وياله من موتا مشرفا لشابا نسى الدنيا بما فيها
من أجل الأخذ بكرامة بلده وأهله.
فلندعو له جميعا بالرحمة.
وليسكنه الله فسيح جناته.

هناك تعليقان (2):

shababspicy يقول...

قصة رائعة اختي

الله يرحمه ويغفرله آمين

ضــى القمــر يقول...

أشكر تشريفك وقرأتك للقصه ورأيك الكريم ..